دنى غالي : مجتمعاتنا في حاجة إلى من يجعلها تعيد النظر في معتقداتها

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
07/05/2008 06:00 AM
GMT




«حديقة بعطر رجل» مجموعة شعرية جديدة للكاتبة العراقية (المقيمة في الدانمرك) دنى غالي، صادرة حديثا عن دار المدى، وهي مجموعة تقول عنها غالي إنها «جاءت هكذا، في شق التطفل» على الرغم من أن الشعر كان هو الأول.
حول الكتاب وعدد من القضايا الأخرى، كان هذا الحوار.


لا بد للحدث العراقي أن يفرض نفسه كمدخل لهذا الحوار، كيف تنظرين إلى كل هذه السنين الماضية؟ وبخاصة لو استعرنا السؤال الذي تطلقه مروى البصري في روايتك (عندما تستيقظ الرائحة) «قل لي ما الذي تبقى هناك ويمكنك أن تطلق عليه وطنا؟».

∎- السؤال بشكله الآخر يأتي باستمرار من الدنماركيين؛ هل ستعودين ان استقرت الاوضاع في العراق؟ وأجاهد لأظهر بعضا من تسامح، إذ اشعر بضيق يتملكني تجاه السؤال، ربما لأني احسبه افتراضيا تماما، ولكن الزمن كان له فعله المضاعف، مرّة بفعله الطبيعي عليّ ومرّة بفعل المكان الجديد بتأثيراته. ومروى لم تجد لها مكانا في منفاها الجديد ولكن منفاها الأول كان أشد وطأة عليها. يخيل إلي أحيانا أن هدفي الأول هو قمع سطوة المكان.

وهل نجحت في ذلك؟ أقصد إن إحدى القراءات الممكنة التي يقدمها نصك، يقودنا إلى ما يمكن تسميته «بحنين معاكس»، على الرغم من هذه المحاولة؟
-∎ ربما أنت على حق، لكيّ أجيب على سؤالك عليّ أن أحفر عميقا لأصل إلى حقيقة تحمل جوابا، لا أعرف إن كنت أخفي حنينا أمرره عبر شخوصي أم أن ما اكتبه ما هو إلا هزء وملل وتشكيك بما يرويه الغالبية من ناسنا. تضايقني مبالغاتنا بما يخص الحنين والغربة ولا اعرف إن كان في هذا رد فعل لأمر استهجان الغربيين لهذه الخصال، قوانين المجتمعات الغربية قاسية، ربما قد يكون هناك نوع من رعب من قنصهم لضعف ما فيّ.

روايتك هذه انطلقت من مكان، هل الكتابة هي المكان؟ بمعنى آخر يقول الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس بأن «الكتابة هي الجغرافيا لا التاريخ»، هل توافقين على ذلك؟
- ∎كما فهمت من جغرافيا الرواية هي أن الروايات المختلفة بوصولها إلينا حيثما تواجدنا قد حركتنا او نقلتنا جغرافيا الى امكنة كانت بالأمس قصية بغض النظر عن نسبية الطرح (كمدن مركز بالنسبة للأطراف عالميا، أو الإمبراطوريات والمستعمرات، وفق تعريف فوينتس)، وهي بذات الوقت عوالم ساحرة لها فضاءات خاصة بها، بماء وهواء وتراب له طعمه الخاص. لم اجدني يوما مستقرة في ذات المكان وأنا اكتب، هكذا كنت في «النقطة الأبعد» وكذلك في «عندما تستيقظ الرائحة»، حيث كلما ابتدأت وجدتني في مكان آخر، وقد انتهي في غيره في الغالب، ذلك نتيجة للتغير المستمر في المكان في حياتي. ولكن الرواية في النهاية جغرافيا وتاريخ معا، واجتماع وعلم نفس وسياسة وخيال ولغة.

لكن فوينتس يضيف أيضا بأن: الرواية «مُتخيل العالم»، و«المُتخيل» تحويل التجربة إلى معرفة. هنا تكمن جغرافيا الرواية في أرض متحركة باستمرار، تتوسع عند كل اكتشاف، لأنها «لا تظهر العالم أو تبرهنه بل تضيف عليه شيئا ما»، لأن مغامرة الكاتب تقع «في قول ما يجهله». هل كنت تكتشفين ما كنت تجهلينه وأنت تكتبين؟
-∎ها أنت تضيف شيئا فأنا لم اقرأ كتاب فوينتس بل قرأت متابعات عنه. ما تقوله يؤكد احساسي الذي لا يخلو من رعشة بأن شيئا ما يجرفني اثناء الكتابة وأوشك أحيانا ان أضيع في متاهات المجهول الذي انجررت اليه. حينها، في غمرة الكتابة، تكون هناك بالفعل قوة مسلطة علينا، من شأنها أن تسلبنا ارادتنا في التحكم بما نقول فنتمادى. أظنه هو الاكتشاف الذي قصدته.

تعيشين منذ فترة طويلة في الدنمارك، هل لعب هذا «المنفى» أي دور في تحويل بعض المفاهيم الكتابية عندك؟
∎- لم اكتب قبل وصولي الدنمارك بسبب نشاط العائلة المعارض حينها لذا جاءت مثل الحلال الفجائي لشيء حرام. كانت الكتابة فضولا بالدرجة الاولى، رغبة بالاستكشاف والانفراد بذلك، ولكني كتبت بذات الوقت لحاجة كبرى للهدوء والنظام بداخلي. تحولت الكتابة ببطء شديد الى شيء جاد باعث على القلق، يقتضي الدقة والتأني رغم الادمان. بحكم تجربتي في الترجمة مثلا صرت أكثر ميلا للحذف، الجملة يجب ان يكون لها موقعها وبعكسه يجب او يمكن حذفها.

هل وجدت فعلا هذا الهدوء؟ أليست الكتابة عملا «انتحاريا» في بعض الأحيان؟ 
- لا، لا أجدها فعلا انتحاريا، انتظر اللحظة وأكون قلقة عندما انشغل عنها وعندما لا انصرف لها. لكنها تأخذني من أحبتي، في ذلك ظلم، وهي موازنة صعبة، فلكي أكون عادلة سأقسو على نفسي، مع هذا فما تمنحه إياي أكثر بكثير مما تأخذه مني. وسيكون الأمر مختلفا لو كنت محترفة بمعنى الكلمة تماما، فزميلاتي وزملائي من الدنماركيين هنا ينظرون الى الامر بشكل مختلف، لديهم اوقات عمل ثابتة وجداول جادة يعملون وفقها. وعندما حصلت على منحة من الدولة من اجل اتمام مشروع روايتي فهمت مسؤولية ذلك.

كتابك الجديد مجموعة شعرية بعنوان «حديقة بعطر رجل» كيف تصفين هذه الرحلة من «النثر» إلى «الشعر»، وهل الكاتب بحاجة أحيانا إلى تغيير «مناخات» الكتابة وأساليبها؟
-∎لم أقرر الجنس أو الأسلوب، جاءت هكذا، في شق التطفل. الشعر كان اولا ولكن بسبب سلطته في العراق كنت أهابه (وما زلت)، وحده النثر خلّصني من المأزق. كان لدينا اوصياء جبابرة ليس من السهل عليهم ان يروا الوقت وهو يحين يوما للنشر. في الرواية هناك تروٍ في التخيل، هناك حرص على الوضوح ومسافة أبعد نفسي فيها عن النص، ان انسحب او اتخفى قدر الامكان. هناك استعارة لرؤوس الآخرين، عقولهم، قلوبهم، ملابسهم، طباعهم. في الشعر الحالة أشبه بانعتاق، مثل طلب استراحة، إطلاق رغبات، نزقة في بعض منها اعرف انها تحت خيمة الشعر مغفورة، في الشعر بث شكاوى لن تصل ـ مل الحبيب من سماعها ربما او صعب عليه وعلي فهمها، اعتذار للنفس، شفرات بلا حد مرسلة لها، له، لهم، لي ولك! والاهم ان هناك اكثر من انا.

هل تخلصت الآن من هؤلاء الأوصياء؟ على الرغم من إقامتك في الدنمرك، فسينظر إليك على أنك كاتبة عراقية، أي ثمة موضعة لهذا النص في سياق معين؟
∎مع ذلك، هناك تشكيك من الطرفين، في مدى دنماركية النص او عربيته وهو ما أفادني كثيرا، إذ منحني الحرية المطلوبة في الكتابة، الأوصياء صاروا اقلية على ما اظن، الامر له علاقة بالتربية في البيئة العربية، وكأننا نقضي باقي حياتنا في محاولات دؤوبة لإنقاذ او اصلاح ما افسدته مجتمعاتنا فينا.

هل فعلا تستطيع الكتابة إصلاح أي شيء؟ إلا نحملها أحيانا أكثر مما هي عليه في واقع الأمر؟
-∎كنت شديدة التوتر لفترة بسبب هذا الذي تثيره الآن. ازاء هذا الدمار والاستخفاف بالانسان، ما الذي نستطيع حقا فعله. وسخرت من كل ما اكتب ونكتب، ورحت مسعورة ابحث عن جواب لدور الكتابة وإمكانية ايجاد مجازات بحجم الكوارث التي نمرّ بها في أوطاننا، ضجرة من الآراء الخيالية المطروحة بعيدا عما يدور حولنا. لست ممن يطالبون بدور للكتابة ولست ممن يلغون الفنون والصرعات المبتكرة ولكن بين الآونة والأخرى انظر إلى ما حولي فأجد الهوة بين المثقف والعامة بشكل عام كبيرة جدا في مجتمعاتنا. وكما قلت لك تبقى الكتابة مجرد نوع من علاج مقترح، نجربه علّه يعين.

إذا كنا فعلا مقتنعين بهذه الهوة في مجتمعاتنا، ألا يطرح الأمر سؤالا عن معنى الكتابة التي نمارسها؟ ولمن؟
-∎سؤال ضروري جدا طالما نتحدث عن أدب جاد، رغم انهم تجاوزوه تماما هنا. سأقول لك شيئا، الجو بشكل عام، وخصوصا حيث تمتزج الثقافات، يجبر على ان يكون حضورك خفيفا انيقا، تخيله وكأنك تحضر حفل استقبال راقيا لمدة ساعتين فقط. الكأس بيدك وعليك ان تنتبه الى ما تقوله بقدر ما تنتبه الى اناقتك ولياقتك. سأجازف لاقول ان دور الكتابة في المجتمعات الغربية يكاد يكون ترفيهيا اليوم. هذا لن ينجح معي، انا التي أجلس قبالة شاشة التلفزيون التي تجلدني يوميا بمأساة العراق تحديدا خبرا وصورة، وأتحرك منها الى شاشة الكمبيوتر في محاولة لنقله بنسخة لايت تماشي الذائقة العامة وتمتعها. من ناحية ثانية ان مجتمعاتنا ما زالت في طور نمو (بأحسن تعبير)، بحاجة للمساعدة في قراءة واقعها، بحاجة لأن ترى صورتها وقد أخذت عن بعد، مجتمعاتنا بحاجة لمن يثير فيها الاسئلة ويجعلها تعيد النظر بمعتقداتها وتقاليدها.

قمت بترجمة مجموعة مختارة من أعمال الكاتب الدنماركي هانس كريستيان اندرسن إلى العربية بعنوان «هانس كريستيان اندرسن ـ قصص وحكايات خرافية»، ما هي الترجمة بالنسبة إليك وما الذي دفعك إلى اختيار أعمال هذا الكاتب؟
∎لم اعتمد الترجمة الادبية كمهنة، وإن تجمع لدي الكثير بمرور الوقت مما احببت ان اترجمه دون التفكير في اتمامه كمشروع، سواء كان شعرا او سردا. الترجمة شعور من نوع آخر بالاكتفاء والتحقق والاكتشاف والانتشاء.
إن تحدثنا عن الفرصة فهذا المشروع سيبقى الاهم في حياتي لما بذل من جهد لاتمامه. توفرت ظروف اقرب الى المثالية في العمل فيه وقد حالفني الحظ في وقوع الاختيار علي للقيام به. قدمت استقالتي من عملي حينها من دون تردد ووقعت عقدا لعامين لاتمامه. كان تقديمه للقارئ العربي نقلا عن لغته الاصلية ضروريا برأيي ومن دون تبسيط او رقابة، كما تم في تقديمه للاطفال لدينا نقلا عن لغات وسيطة احدها كما اذكر كان من اوروبا الشرقية نقلا عن الانكليزية، أو كما في النسخة الانكليزية المترجمة في بريطانيا على سبيل المثال، والتي تم فيها مراعاة المجتمع المحافظ بحذف غير المسموح به اخلاقيا بنظرهم.
لا يفهم الدنمركيون عدم اطلاعنا على ادب اندرسن بشكل عام وينزعجون من معرفتنا به ككاتب اطفال فقط ، بالمناسبة يذكر ان جل الاطفال الصينيون في الشارع يعرفون اندرسن قبل كبارهم. اندرسن فاجأني في الكثير من نصوصه بصوته الساخر وهزئه من المسلمات والجاهز في زمانه، فقد يصادف الحظ احدهم ويغتني او يسعد بلا استحقاق ولا تنتهي الرواية بأن يأخذ المظلوم حقه او يتزوج الحبيب من يحب. قصة كالظل كتبت منذ اكثر من مئة وخمسين عاما ولا يمكن الا ان يبهرنا اسلوبها المختزل وسعة الخيال فيها وصدقها في آن واحد. قد ارعبتني حقا وبذلت جهدا في حرصي على نقلها كما هي قدر الامكان، اما رائعته حورية البحر فقد صب فيها كل معاناته التي تجسدت بمحاولاته المستميتة من اجل الشعور بتقبل المجتمع له. لم يتحقق لديه الشعور بالانتماء الى مجتمع الطبقة التي كان يتواجد فيها، وبقي يعاني من عدم شعوره بتقبل تلك الشريحة له.